خبر هام

كاتب فرنسي : عناصر القوة في استراتيجية بشار الأسد

اسمعوا ، إنها حالة رائدة : المواجهة التي تحتدم أمام أنظارنا في سورية منذ أربع سنوات سيصار إلى دراستها مستقبلاً بالتأكيد في مدارس الاستراتيجيا لشدة ما هي غنية بالدروس والعبر . فهي تجمع في مكان واحد ووقت واحد وفي ما يشبه قصص المآسي الإغريقية ، ولكن على مستوى الدول ، فريقين متناحرين أساسيين أحدهما لا يقترف أي خطأ ، بينما الآخر لا يفعل غير اقتراف الأخطاء .

أين يمكننا أن نجد بلداً صغيراً لا تزيد مساحته عن 180 ألف كلم مربع ، وسكانه عن 22 مليوناً ، لا يكاد يزيد في هذا عن البرتغال ؛ ومع هذا،.  يقف صامداً أمام القوة الأولى في العالم وجميع السائرين في ركابها ممن عاهدوا أنفسهم على سحق هذا البلد ، بمعية جحافل من الهمج القادمين من أربعة أقطار العالم ليقاتلوا تحت رايات الإسلام ؟

بشار الأسد لا يسدد منذ البداية غير ضربات موفقة ، إنه يعتمد استراتيجية هي غاية في الذكاء ، لا تسقط في أي فخ ، وتنتبه لكل ما ينصب لها من حبائل .

في أساس هذه الاستراتيجية ، بضعة أفكار بسيطة يتم تطبيقها وتمكن بشار الأسد أولاً من البقاء مرفوع الرأس فوق الماء ، وتسمح له ثانياً بالتقدم نحو النصر .

عناصر-القوة-في-استراتيجية-بشار-الأسد

وهذه لائحة بالعناصر الضرورية والكافية لتحقيق انتصار سورية :

أولاً : استعلام جيد وتحليل جيد في العلم الجيوسياسي، الاستعلام هو استخدام البصر. وبدونه يكون الإنسان ضريراً. لا غنى عن الاستعلام في وضع استراتيجية منتصرة.

النظام السوري أدرك الحقيقة منذ خروج التظاهرات الأولى عام 2011. أدرك أن تلك التظاهرات ليست تظاهرات مسالمة كتلك التي يمكن أن نشاهدها في أوروبا، بل محاولة منسقة من أجل إسقاط السلطة عبر التلاعب بالرأي العام أو، على سبيل المثال، عبر أنشطة كتلك التي مورست في أوكرانيا، حيث قامت أعداد من القناصة بإطلاق النار لإجبار الحكومة على الرد، وبالتالي لاتهامها بالقتل.

وسائل الإعلام في الغرب روجت لنا خرافة التظاهرات السلمية التي قمعت بشكل دموي من قبل سلطة شيطانية، وهذا القمع أدى إلى تجذر المعارضة. إنها خرافة بالتأكيد، إذ إن إسقاط السلطة السورية كان هدف التظاهرات منذ البداية. ولتحقيق هذا الهدف، كان الإسلاميون المتشددون هم من يشكل الوسائل المتوافرة. كان على سورية أن تعلم ذلك. وقد علمت ذلك. وهنا تنتهي القصة.

ثانياً :  تصميم لا يتزعزع منذ اللحظات الأولى، كان تصميم السلطة السورية كاملاً. فقد بدأت الاضطرابات في شباط / فبراير 2011. وفي أواخر آذار / مارس 2011، أعلن بشار الأسد أن ما يجري هو مؤامرة على سورية. كانت هوية التحرك واضحة تماماً. ومنذ بداية الأزمة، كانت إرادة سورية في منتهى الصلابة.

ومنذ البداية، حاز النظام المصداقية في نظر جميع الأقليات التي سيستهدفها الإسلاميون فيما بعد. وبهذه المصداقية ضمن النظام لنفسه دعماً شعبياً محدوداً، ولكنه حقيقي، على ما أظهرته مظاهرات التأييد التي خرجت منذ بداية الأزمة. وهنا، لا بد أن نلاحظ أن النظام السوري قد استمد قوة من … خصومه ! أي من الفتاوى التي أطلقت باسم الإسلام ودعت إلى قتل العلويين والمسيحيين والدروز والتي ساعدت هؤلاء على اختيار الصف الذي يتوجب عليهم أن يقفوا فيه.

ولابد من الملاحظة هنا أن المسافة بين الحكومة السورية التي قاربت الواقع بشكل صحيح جداً والديبلوماسيين الغربيين، الفرنسيين بشكل خاص، الذين مارسوا التسميم الذاتي عندما طبّلوا لمقولة “النهاية القريبة لنظام بشار”.  كان ذلك في العام 2012, وقد وصلنا إلى العام 2015، ولم يحدث ذلك.

ثالثاً :  المقدرة على تجميع القوات وتعبئتها ..

 إذا كان بشار الأسد قد امتنع، عن حق، عن تقديم أي تنازل للإرهابيين، فإن ذلك لم يمنعه في الوقت نفسه من تهيئة أرضيات للوفاق، في سورية والخارج، مع كل من يمكن أن يكون حليفاً ممكناً.

مثال على ذلك : في نيسان / أبريل 2011، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر من بداية الأحداث، وفي الوقت الذي كان يقوم فيه أشباه الصحافيين الغربيين بتهجئة سخافاتهم الاعتيادية حول “الدكتاتور الشرير” الذي يحارب الديموقراطيين اللطفاء، كان بشار الأسد يعيد إلى 300 ألف كردي جنسيتهم السورية.

وخلافاً لما كتبته في تلك الفترة صحيفة ليبراسيون التي لم تفهم شيئاً كعادتها، لم يكن ذلك تنازلاً منه بل، على العكس من ذلك، كان تعزيزاً لمعسكره من خلال إقامة تحالف أساسي. وهنا ايضاً، ومع محافظتي على التهذيب، فإن غباء خصوم الأسد الذين حولوا هؤلاء الأكراد إلى أعداء لهم قد أفضى إلى تعزيز مواقع سورية الأسد.

ولا بد من أن نلاحظ أيضاً الفارق بين سورية التي تعيد إلى الأكراد جنسيتهم، وبين بعض بلدان الناتو، وهي (دون ذكر الأسماء) بلدان البلطيق، التي ترفض منح جوازات سفر إلى الناطقين باللغة الروسية مع أنهم من مواليد تلك البلدان ! صحيح أن ذلك لا ينطبق في ليتوانيا مثلاً إلا على 44 بالمئة من السكان ! كما أغض الطرف عن حالة أوكرانيا التي أدى بها ذكاؤها إلى منع استخدام اللغة الروسية ! ومع هذا، فإن هؤلاء كلهم لا يترددون في إعطاء الدروس لغيرهم !

رابعاً :  سياسة نفعية (بالمعنى النبيل للكلمة) تستخدم أوراقها الرابحة بشكل جيد وعلى ما يقوله ليتواك (Luttwak) في كتابه الذي يحمل عنوان “الاستراتيجية العظيمة للإمبراطورية البيزنطية”، فإن عملاً مأساوياً كبيراً يمر على الأقل، لا من خلال التحالفات، بل من خلال حيادية كريمة تمارسها قوى العالم المحيط بكم.

فقد كان من الحيوي جداً بالنسبة لسورية بشار الأسد التي تخوض مواجهة مع الولايات المتحدة وأذنابها، إضافة إلى عدد من البلدان العربية، وإلى قوة إقليمية كبرى هي تركيا، أن تجد حلفاء لها أو، على الأقل، أن تستفيد من حيادية القوى الأخرى الوازنة.

وقد نجحت دمشق في ذلك. وهذا ما مكنها من تفعيل تحالفها مع طهران وكذلك مع روسيا، حيث ردت إليها الجميل عندما ساندتها في قضية القرم. والواضح هنا أن الوفاء مفيد في السياسة الدولية.

أما بالنسبة لبلدان أخرى كالصين، لم يكن على سورية غير أن تقدم حجة تجاوبت أصداؤها حتى وصلت إلى بكين. وهذه الحجة هي الشرعية. نعم. فحكومة جمهورية الصين الشعبية هي حكومة محافظة فوق العادة في مجال السياسة الخارجية ! إنها لا تحب التغيير والفوضى خصوصاً عندما يكون الأميركيون هم من يقفون وراء ذلك. وهكذا، لم يكن على دمشق إلا أن تلعب ورقة الشرعية وأن لا تقترف أي خطأ في هذا المجال. وقد نجحت في ذلك ! ولأن دمشق قد ضمنت تحالف إيران وروسيا وحيادية الصين، فقد نجحت في تجنب التعرض للحصار.

يمكنكم هنا، على سبيل النكتة، أن تأخذوا ما يلي بعين الاعتبار : لو كان أحدكم ديكتاتوراً أو “رئيساً مهيباً” من رؤساء العالم الثالث أو العالم العربي، فإن من  الأفضل له أن يعتمد على دعم جهة من نوع فلاديمير بوتين لا من نوع الغربيين. ولكي يقتنع بذلك، لا يكون عليه إلا أن يقارن بين مصير زين العابدين بن علي وحسني مبارك، من جهة، ومصير بشار الأسد، من جهة ثانية. ذلك يثير الضحك عندكم. لكنه لا يثير الضحك عند السيسي الذي يبدو أنه قد فهم الدرس وبدأ بمغازلة بوتين !

خامساً : العمل في العمق وبطريقة اقتصادية هنا، تبدو استراتيجية سورية في القرن الحادي والعشرين شبيهة باستراتيجية الإمبراطورية البيزنطية القديمة. فسورية لا تمتلك إمكانيات كبيرة ولا جيوشاً جرارة. لذا، فإنها تقتصد عبر تجنب المواجهات المباشرة واعتماد أعمال التطويق وحرب العصابات المضادة.

خارطة العمليات واضحة : نلاحظ مثلاً أن القوات السورية تحاصر المتمردين بانتظار أن تسقط الجيوب التي يحتلونها كثمرة ناضجة وبأقل الخسائر الممكنة. من هنا، لم يبق للمتمردين غير بعض المساحات المحاذية للبلدان التي تساندهم، أي لتركيا وإسرائيل اللتين لن تتدخلا بشكل مباشر، ما يعني أنه من الطبيعي لتلك الجيوب أن تسقط بدورها .

في الوقت نفسه، لا يمكن لبشار الأسد إلا أن يحقق فائدة من قصف قوات التحالف الدولي لمواقع داعش. وبهذا يكون أولئك الذين عملوا منذ أربع سنوات على إسقاط سورية قد اصبحوا منشغلين، إلى حد ما، ببعضهم البعض.

سادساً :  سادسة الأثافي : بشار يتحكم أيضاً بلعبة الإعلام على ما قاله لي صديق لبناني، ليس في الحروب الأهلية أشرار من جهة، وأخيار من الجهة الأخرى، والغرب ليس الوحيد الذي يتحكم بالإعلام. فقد تمكن بشار من التأثير على الجميع في العالم من خلال تشديده على فكرة أن “الحرب لا يمكن أن يربحها أحد” ، مؤدى هذه الفكرة التي عاد بها نوابنا الأربعة بعد زيارتهم لدمشق أنه لن يكون هنالك غالب ومغلوب في سورية. والواقع، كما سبق وأكدت أعلاه، أن الرئيس السوري هو الآن بصدد الانتصار في تلك الحرب. ولكنه بتشديده على تواضع انتصاره من خلال التظاهر بأنه لم ينتصر في الحرب، يتجنب رد فعل قد يأتي في اللحظة الأخيرة من قبل خصومه وفي مقدمتهم الأميركيون الذين قد يلجأون إلى تدمير جهوده وتوجيه قنابل الناتو إلى سورية. فأن تتظاهر بأنك الطرف الأضعف هو ايضاً جزء من فن الحرب .

لكل هذه الأسباب، فإن بشار الأسد يعطي اليوم درساً في الاستراتيجيا للعالم كله، والأكيد أن انتصاره سيكون خلال العقود المقبلة مادة للتدريس في المدارس الحربية في العالم كله .

ماذا عن “داعش” ؟

لن أتوقف طويلاً أمام داعش التي تشكل العدو الحقيقي لبشار. أما عن الجيش السوري الحر، فلا بد لي من القول باختصار بأنه لا شيء بالمرة. وعلى كل حال، فإن هزيمته قد بدأت ومقاتلوه هم بصدد الالتحاق بالإسلاميين.

من الناحية الاستراتيجية العامة، داعش هي أسوأ من كل ما شهدناه في التاريخ. وفوق ذلك، فإنها لا تفوت فرصة إلا وترتكب فيها حماقة ما. أتكلم هنا عن الاستراتيجية الجيوسياسية : تمكنت “داعش” من الصمود في الميدان، على الأرض، عبر الاستناد إلى بعض المشاعر الطائفية، وإلى قدرتها على إدارة المناطق التي استولت عليها.

“داعش” لا تمتلك قدرة على التعامل مع الظروف شأنها شأن النازيين، نجحت داعش في كسب استياء جميع البلدان المحيطة بها، حتى في ظروف عدم اصطفاف هؤلاء ضدها. كان بإمكانها أن تعقد اتفاقية عدم اعتداء مع الأكراد لأن هؤلاء لا يريدون في النهاية أكثر من السيطرة على مناطقهم. ولكن داعش لم تفعل ذلك. وهكذا، تجد داعش نفسها مجبرة، شأن النازيين، على خوض الحرب على جبهتين، لا بل حتى على ثلاث جبهات : سورية والعراق والأكراد.

كان النازيون قد نجحوا على الأقل في أن يجتذبوا إلى صفهم بلداناً من الدرجة الثانية في مجال القوة مثل هنغاريا وفنلندة وكرواتيا. أما “داعش”، فلم تخطر ببالها فكرة التفاوض على سلام بارد مع الأردن، لا بل أن أفعالها الهمجية أدت إلى عكس ذلك عبر إثارة رد فعل قوي من قبل الأردن. لو كان شارل موريس دو تايليران حياً بيننا الآن لكان بإمكانه أن يقول “هذا أسوأ من جرم، إنه خطيئة !”. لم يعد لـ”داعش” اي حليف. وعلى المدى البعيد فإن ذلك في غير مصلحتها.

“داعش” : لا عمل في العمق

الإمبراطوريات أو الدول الإجرامية التي تمكنت من البقاء في القرن العشرين كانت تمتلك المقدرة أقله على تعبئة جيوشها حول تصور للعالم، حول حلم حتى ولو كان مغرقاً في الخيال، كما هو شأن تحرير الطبقة العاملة عند الشيوعيين الستالينيين والخمير الحمر.

والسؤال هو : حول أي فكرة تعبئ داعش أنصارها ؟ العودة إلى القرن السابع والعيش مع الناقة والبعير؟ تدمير المواقع الأثرية ؟ صحيح أن بعض المضطربين يلتحقون بـ”داعش” على أساس تلك الأفكار. وصحيح أن الانتصارات العسكرية التي تحققها “داعش” تلمع صورتها في أعين بعض المدقعين في كل مكان وتجتذبهم إلى صفوفها. ولكن أكثر هؤلاء سيغيبون عن الساحة عند أول هزيمة. هل ترغب، أنت مثلاً، بالموت من أجل تدمير موقع اثري ؟ لا أحد ينذر نفسه للعمل الدائم من أجل هدف بهذه الحقارة.

إعلام رديء

لا أصدق مطلقاً ما يقوله بعض المحللين الذين يصفون بـ “الممتازة” ما تبثه “داعش” من رسائل. فارتكاب الفظاعات أمام الناس أو العدسات لا يحرك الناس بشكل مستديم إلا ضد من يفعل ذلك. لقد استمر وجود السوفييت 70 عاماً لأنهم كانوا يعدون الناس بعالم “مشرق”، لا لأنهم كانوا يرتكبون الفظاعات. أي صورة للمستقبل تقدمها “داعش” ؟ أبقطع رؤوس الأعداء وإحراقهم أحياء تريدون تعبئة الجماهير واجتذابها إلى صفكم ؟ أشك في ذلك.

في الحرب الأهلية السورية كما في جميع الحروب الأهلية، سيكون هنالك رابحون وخاسرون. وكما كان الشأن بالنسبة للحرب الأهلية الأوروبية التي اندلعت بين العام 1939 و 1945، سيكون الرابح في سورية ذاك الذي يمتلك استراتيجية ورؤية للمستقبل، ولمن يصمد ويعرف كيف يجمع الناس حوله وكيف يقيم التحالفات.

بانتظار الخلاصة يمكن بالتأكيد أن أكون مخطئاً. يمكن أن يظهر عنصر أو عامل لم أنتبه لأهميته. فإذا ما رأى أحد القراء ذلك العنصر، فإنني سأكون سعيداً إذا ما لفت نظري إليه. لكنني حتى الآن لا أرى أي عنصر أو عامل يمكنه أن يحول دون بشار الأسد والانتصار الكامل … وأن يحول دون “شرشحة” الدبلوماسيات الغربية بالكامل .

عن موقع agoravox الإلكتروني
الكاتب Kergoat Le

سيريان تلغراف

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock